فصل: (باب زكاة مال التجارة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: مصوغ الذهب والفضة]

وأما المصوغ من الذهب والفضة: فعلى ضربين: مباحٌ، ومحظورٌ.
فأما المباح: فهو ما يتخذه الرجل كحلية لنفسه، كالمنطقة المحلاة بالفضة، والقبيعة للسيف، والخاتم من الفضة، وكذلك ما تتخذه المرأة لتلبسه من خلاخل الذهب والفضة والدمالج والمخانق وغير ذلك، فهل تجب فيه الزكاة؟ فيه قولان:
أحدهما: تجب فهي الزكاة، وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباسٍ، وابن مسعودٍ، وعبد الله بن عمرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن الفقهاء: الزهري، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه؛ لما روي: «أن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تلبس أوضاحًا من ذهبٍ، قالت: فقلت: أكنزٌ هو يا رسول الله؟ قال: ما بلغ أن يزكى، فزكي، فليس بكنزٍ». وروي: «أن امرأة من اليمن أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنتها، وفي يدها مسكتان غليظتان من ذهبٍ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أتؤدين زكاة هذا؟، قالت: لا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيسرك أن يسورك الله بسوارين من نار؟! فخلعتهما، وألقتهما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: هما لله ولرسوله».
والثاني: لا تجب فيه الزكاة. قال المحاملي: وهو الصحيح، وبه قال ابن عمر وجابرٌ وعائشة، وأختها أسماء، ومن التابعين: الحسن، وابن المسيب والشعبي، ومن الفقهاء: مالكٌ، وأحمد، وإسحاق؛ لما روي: «أن فريعة ابنة أبي أمامة قالت: (حلاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رعاثًا من ذهبٍ، وحلا أختي، وكنا في حجره، فما أخذ منا زكاة حليٍّ قط».
وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في الحلي».
ولأنه مبتذلٌ في مباحٍ، فلم تجب فيه الزكاة، كالعوامل من البهائم.
وأما ما روي من حديث أم سلمة، وحديث المرأة التي أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اليمن: فيحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي كان لبس الذهب محرمًا على النساء؛ لأنه قد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من تطوق بطوقٍ من ذهبٍ.. طوقه الله يوم القيامة بطوقٍ من نارٍ»، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من تسور بسوارٍ من ذهبٍ.. سوره الله بسوارٍ من نارٍ». وهذا كان في أول الإسلام.
إذا ثبت هذا: فللرجل أن يتخذ الخاتم من الفضة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ خاتمًا من فضة فكان إذا لبسه.. جعل فصه مما يلي كفه» وكان السبب في ذلك أن الأكاسرة كانوا لا يقبلون الكتب إلا مختومة، فاتخذ ذلك ليختم به الكتب، وكتب على الفص ثلاثة أسطرٍ: " محمدٌ "، سطرٌ، و " رسول " سطرٌ، و " الله " سطرٌ؛ فلما توفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. أخذه أبو بكرٍ، ثم أخذه بعده عمر، ثم أخذه بعده عثمان، ثم وقع في بئرٍ في أيام عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -).
وأما تختم الرجل بالذهب: فلا يجوز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التختم بالذهب».
ويجوز للرجل أن يتخذ قبيعة السيف والسكين من فضة؛ لما روي: «أن سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له قبيعة من فضة».
وروي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جملٌ في أنفه برة من فضة، وإنما اتخذ ذلك؛ لأنه يغيظ به المشركين».
ويجوز له أن يحلي المصحف بالفضة، وهل له أن يحليه بالذهب؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجوزُ؛ لأن فيه تعظيم القرآن، فأشبه الفضة.
والثاني: لا يجوز؛ لأن ذلك حلية للرجل لا للقرآن، والرجل لا يجوز أن يتحلى بالذهب.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فأوجب الزكاة في حلية المصحف، وهذا يدل على أنها غير مباحة عنده.
وهل يجوز للرجل أن يحلي اللجام وثفر الدابة بالفضة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن فيه زينة وغيظًا للمشركين وترهيبًا لهم، فشابه حلية السيف.
والثاني: لا يجوز؛ لأن ذلك حلية للدابة.
ولا يجوز أن يتخذ محبرة من فضة، ولا دواة ولا مقلمة من فضة، لأن ذلك يجري مجرى الأواني من الفضة في البيت.
ويجوز للمرأة أن تلبس من حلي الذهب والفضة ما جرت عادة النساء بلبسه، كالخلاخل والدمالج والأساور والمخانق، ولا يجوز أن تحلي ربعتها ولا مرآتها؛ لأن ذلك يجري مجرى الآنية من الذهب والفضة.
ولا يجوز للرجل أن يتخذ لنفسه حلي النساء، ولا للمرأة أن تتخذ لنفسها حلي الرجال، كالمنطقة والطوق، فإن اتخذ الرجل حلية النساء؛ ليلبسه نساءه، أو يعيره.. جاز، وكذلك إذا اتخذت المرأة حلي الرجال؛ لتلبسه زوجها، أو ولدها، أو لتعيرها الرجال.. جاز ذلك، وكل ما قلنا لا يجوز استعماله، فتجب فيه الزكاة، قولًا واحدًا، وكل ما جوزنا استعماله، ففي وجوب الزكاة فيه: القولان في الحلي.
وإن اتخذ الرجل أو المرأة آنية من ذهبٍ أو فضة.. وجبت فيها الزكاة، قولًا واحدًا، سواءٌ قلنا: يجوز الاتخاذ أو لا يجوز؛ لأن الزكاة إنما تسقط في أحد القولين، إذا كان معدًا لاستعمال مباحٍ، وهذا غير معدٍّ لذلك.
وإن اتخذ الرجل حلية يجوز له لبسها، أو اتخذت المرأة حلية يجوز لها لبسها، ونويا القنية بذلك.. وجبت فيها الزكاة، قولًا واحدًا؛ لأنه غير معدٍِّ لاستعمالٍ مباحٍ.
فإن اتخذ الرجل منطقة من فضة ثقيلة لا يمكن لبسها، أو اتخذت المرأة حليًا ثقيلًا لا يمكن لبسه.. وجبت فيه الزكاة، قولًا واحدًا؛ لأنه غير معدٍّ لاستعمالٍ مباحٍ.

.[فرع: تزيين المساجد بالفضة والذهب]

قال أبو إسحاق المروزي: ولا يجوز تفضيض المساجد، ولا أن يتخذ لها قناديل من ذهبٍ أو فضة، لأن أحدًا من السلف لم يفعل ذلك، فإن فعل ذلك.. ففيه الزكاة، قولًا واحدًا، إلا أن يوقفها على المسجد، فلا يجب فيها الزكاة؛ لأن ملكه زال عنها، ولكن لا يجوز استعمالها.
وكذلك: لا يجوز أن يموه سقف بيته بذهبٍ ولا فضة.
وقال أبو حنيفة: (يجوز).
دليلنا: أن في ذلك سرفًا وخيلاء، فلم يجز، كالتختم بالذهب.
إذا ثبت هذا: فإن كان يمكنه تخليصه، وكان نصابًا، أو لمالكه من جنسه مالٌ إذا ضمه إليه بلغ نصابًا.. وجبت فيه الزكاة، وإن أخرج الزكاة بالاستظهار.. جاز، وإن لم يخرج بالاستظهار، ولم يعلم قدر ما فيها.. ميز بالنار، وإن كان إذا خلص، لم يتخلص منه شيءٌ.. فإنه لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه تالفٌ. قال ابن الصباغ: وذكر الشيخ أبو حامدٍ: إذا كان لا يتخلص، وكان مستهلكًا.. لم يحرم استدامته.

.[فرع: الزكاة في حلي الخنثى]

ذكر القاضي أبو الفتوح: لا يجوز للخنثى المشكل أن يتخذ حلي الرجال، ولا حلي النساء؛ ليستعمله، فإن اتخذ شيئًا من ذلك.. وجبت فيه الزكاة، قولًا واحدًا، إلا أن يتخذه؛ ليلبسه جواريه، أو يعيره.
وإن اتخذت امرأة حليًا للكراء.. ففيه طريقان:
أحدهما: تجب فيه الزكاة، قولًا واحدًا؛ لأنه معد لطلب النماء، فهو كما لو اشترته للتجارة.
والثاني: أنها على قولين؛ لأن النماء المقصود منه قد فقد، فإن الذي يحصل من الأجرة قليلٌ.
قال الصيمري: وهل يجوز إكراء الذهب بالذهب، والفضة بالفضة؟ فيه وجهان.

.[فرع: الزكاة فيما كسر من الحلي]

إذا قلنا: لا تجب الزكاة في الحلي، فانكسر، فإن كان كسرًا لا يصلح حتى تعاد صياغته.. وجبت فيه الزكاة، قولًا واحدًا، إذا قام في يده حولًا بعد الكسر؛ لأنه لا يصلح للاستعمال، فهو كالتبر، وإن انكسر كسرًا لا يمنع من اللبس، كالشق في الخاتم والخلخال.. لم تجب فيه الزكاة؛ لأنه معدٌ لاستعمالٍ مباحٍ، وهذا الشق لا تأثير له.
وإن انكسر كسرًا يمنع من لبسه، ولا يحتاج إلى إعادة صياغته من أصلها، بل يكفي فيه اللحام مثل: أن ينقسم نصفين، فإن نوت كنزه دون استعماله.. وجبت فيه الزكاة؛ لأنها لو نوت ذلك قبل الانكسار، لوجبت فيه الزكاة، فبعد الانكسار أولى، وإن نوت إصلاحه.. فلا زكاة فيه؛ لأنه معدٌ لاستعمالٍ مباحٍ.
وإن لم تنو به القنية، ولا الإصلاح.. ففيه قولان:
الأول: قال في القديم: (تجب فيه الزكاة؛ لأنه لا يمكن لبسه، فهو كما لو تفتت).
والثاني - وهو قوله في "الأم" [2/35] (لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه يمكن إصلاحه للبس، والظاهر بقاؤه على ما كان من إرصاده للاستعمال).
هكذا ذكره الشيخ أبو حامدٍ وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا.
وذكر في "المهذب": إذا انكسر بحيث لا يمكن لبسه إلا أنه يمكن إصلاحه.. فهل تجب فيه الزكاة؟ فيه قولان من غير تفصيلٍ، ولعله أراد ما ذكروه.

.[فرع: زكاة الحلي المباح]

إذا قلنا: تجب الزكاة في الحلي المباح، فإن كان لامرأة خلخالٌ قيمته ثلاثمائة درهمٍ، ووزنه مائتا درهم.. فإن الزكاة تجب على قدر وزنه، لا على قيمته، فإن سلم رب المال ربع عشره إلى الإمام، أو إلى المساكين مشاعًا.. جاز، فإذا صح تسليمه.. كان الإمام أو المساكين بالخيار: بين أن يبيعوه منه أو من غيره، ثم يفرق ثمنه عليهم.
وإن أعطى رب المال خمسة دراهم جيدة، قيمتها سبعة دراهم ونصفٌ، لجودة سكتها وطبعها.. قبل منه؛ لأنه أعطى مثل ما وجب عليه، وإن أراد أن يعطي سبعة دراهم ونصفًا.. لم يجز؛ لأنه يعطي ذلك عوضًا عن خمسة دراهم، وذلك ربًا.. فلم يجز.
وإن قال رب المال: أنا أكسره، وأعطي منه خمسة دراهم، أو طلب المساكين ذلك.. لم يجز، وذلك؛ لأن النقص يدخل عليهم، وإن قال رب المال: أنا أكسره وأعطي قطعة ذهبٍ، قيمتها سبعة دراهم ونصفٌ.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي العباس -: أنه يجوز؛ لأن هذا موضع ضرورة، لأنه لا يمكن أخذ الزكاة من عينه، ولا من غيره، فدعت الحاجة إلى أن يأخذ بقيمة الزكاة ذهبًا.
والثاني - حكاه ابن الصباغ، عن الشيخ أبي حامدٍ، وإليه أشار في "المهذب" -: أنه لا يجوز؛ لأنه لا يمكنه أن يسلم ربع عشره مشاعًا، وإن كان مع رجل إناءً من ذهبٍ أو فضة، وزنه مائتا درهمٍ، وقيمته ثلاثمائة درهمٍ.. فإن استعماله لا يجوز، قولًا واحدًا، وهل يجوز اتخاذه؟ فيه قولان، وقيل: فيه وجهان:
وتجب الزكاة فيه، قولًا واحدًا.
وأما كيفية أخذ الزكاة منه، فإن قلنا: إن اتخاذه يجوز.. فالحكم فيه كالحكم في الخلخال، على ما ذكرناه.
وإن قلنا: إن اتخاذه لا يجوز، وهو ظاهر المذهب، فإن سلم رب المال ربع عشره مشاعًا.. جاز، وإن أراد أن يكسره، ويسلم الزكاة منه.. جاز؛ لأنه لا قيمة لصنعته، وإن أعطى خمسة دراهم من نوع تلك الفضة، أو أجود منها، قيمتها خمسة دراهم.. جاز؛ لأنه قد أعطى مثل ما وجب عليه، وتلك الصنعة لا قيمة لها، وإن أراد أن يعطي قطعة ذهبٍ قيمتها خمسة دراهم.. لم يجز، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لو أعطى سبعة دراهم ونصفًا.. جاز؛ لأنه يكون متطوعًا بالزيادة على الخمسة.
وإنما لا يجوز، إذا أخرج ذلك بالقيمة للصنعة، والصنعة هاهنا لا قيمة لها، فيكون متطوعًا بالزيادة، فهو كما لو وجب عليه وسقٌ، فأعطى وسقين. وبالله التوفيق.

.[باب زكاة مال التجارة]

قطع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: (أن الزكاة واجبة في أموال التجارة). وبه قال عمر، وابن عمر، وجابرٌ، وعائشة، وبه قال الفقهاء السبعة، والثوري، وأبو حنيفة.
واختلف قول الشافعي في القديم، فقال فيه: (اختلف الناس في وجوب الزكاة في مال التجارة، فقال بعضهم: لا زكاة فيها، وهو قول ابن عباسٍ، وهو القياس - وبه قال داود - وقال بعضهم: تجب الزكاة فيها بكل حالٍ، وهذا أحب إلينا.. وذهبت طائفة إلى: أنه لا زكاة فيها حتى تنض وتصير دراهم أو دنانير، فإذا نضت أخذ منها زكاة عامٍ واحدٍ، وإليه ذهب عطاءٌ، وربيعة، ومالكٌ).
دليلنا: ما روى أبو ذرٍّ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته». قاله بالزاي المنقوطة، والبز: لا تجب فيه الصدقة إلا إذا كان للتجارة.
وروي عن سمرة بن جندب: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع». وهذا نصٌّ؛ لأن الذي نعده للبيع هو عروض التجارة.
ولأن الأثمان لما كانت على ضربين:
منها: ما لا تجب فيه الزكاة، وهو الحلي المعدة لاستعمالٍ مباحٍ.
ومنها: ما تجب فيه لزكاة، وهو ما عدا ذلك.
والماشية على ضربين:
منها: ما لا تجب فيه الزكاة، وهي المعلوفة.
ومنه: ما تجب فيه الزكاة، وهي السائمة.
وجب - أيضًا - أن تكون العروض على ضربين:
منهما: ما لا تجب فيه الزكاة، وهو ما لا يكون للتجارة.
ومنها: ما تجب فيه الزكاة، وهو ما أعد للتجارة.
ووجه المشابهة بينهما: أنه مالٌ: يطلب فيه النماء، فوجبت فيه الزكاة، كالأثمان والسائمة.

.[مسألة: المعاوضة شرط للتجارة]

ولا يصير العرض للتجارة، إلا بأن يملكه بعقد معاوضة، كالبيع والإجارة، وينوي بالعقد أنه للتجارة، فإن ورثه أو اتهبه، ونوى أنه للتجارة، أو اشتراه ولم ينو به التجارة.. لم يصر للتجارة، وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفة.
وقال أحمد، وإسحاق: (تصير للتجارة). وتابعهما الحسين الكرابيسي من أصحابنا.
دليلنا: أن كل ما لم تجب الزكاة فيه من أصله.. لم يصر للزكاة بمجرد النية، كالمعلوفة إذا نوى إسامتها، وفيه احترازٌ من الأثمان.
فإن قيل: أليس لو اشترى شاة بنية أنها أضحية.. لم تصر أضحية حتى ينوي بها بعد الشراء؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الشراء يوجب الملك، وكونها أضحية توجب زوال الملك، وهما أمران متنافيان، فجرى مجرى من اشترى عبدًا بنية إعتاقه، فإن العتق لا يصح، وليس كذلك إذا اشترى عرضًا ونوى به التجار؛ لأن نية التجارة لا توجب زوال الملك، فلذلك جاز اجتماعهما.
فإن نوى بعرض التجارة القنية.. انقطع حول التجارة فيه؛ لأن نية القيمة اقترنت بفعل القنية، وهي الإمساك، فهو كالمسافر إذا نوى الإقامة.

.[فرع: نية التجارة بالصداق]

إذا تزوجت امرأة بمالٍ، ونوت عند العقد أنه للتجارة، أو خالع الرجل امرأته بمالٍ، ونوى عند العقد أنه للتجارة.. ففيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق \ 144]:
أحدهما: أنه يصير للتجارة، وهو طريقة البغداديين من أصحابنا؛ لأنه ملكه بعقد معاوضة، فهو كالمملوك بالبيع.
والثاني: لا يصير للتجارة؛ لأن النكاح والخلع ليس المقصود منهما العوض، بدليل: أنه يصح من غير عوضٍ.

.[فرع: نية التجارة لا يبطلها الفسخ]

لو باع عرضًا لا بنية التجارة، ثم فسخ البيع، ونوى بالفسخ التجارة.. لم يصر للتجارة؛ لأن ذلك ليس بتجارة، بل هو منعٌ منها.
ولو باع عرضًا بنية التجارة.. صار ما قبضه للتجارة، فلو وجد به عيبًا، ففسخ البيع بنية التجارة.. قال في "الإبانة" [ق \ 144] لم تبطل التجارة؛ لأن العقد الذي انعقد للتجارة لم يبطل من أصله.

.[مسألة: شراء ما تجب الزكاة بعينه]

إذا اشترى للتجارة ما تجب الزكاة في عينه، كالسائمة من الماشية أو كالنخل والكرم، أو اشترى أرضًا للتجارة، فزرعها، أو كان بها زرعٌ.. نظرت:
فإن وجد نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى، كخمسٍ من الإبل لا تساوي مائتي درهمٍ، أو أربع من الإبل تساوي مائتي درهمٍ.. وجبت فيه زكاة ما وجد نصابه؛ لأنه ليس - هاهنا - زكاة تعارضها.
وإن وجد نصابهما.. فلا خلاف أن الزكاتين لا تجبان معًا، وأيهما يجب؟ ينظر فيه:
فإن اتفق حولاهما بأن اشترى خمسًا من الإبل للتجارة بعرض للقنية وأسامها، وقومت عند الحول، فبلغت قيمتها نصابًا.. ففيه قولان:
الأول: قال في القديم: (تجب زكاة التجارة). وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، إلا أن أبا حنيفة يقول في التجارة والزرع كقولنا الجديد.
ووجه هذا: حديث سمرة بن جندب حيث قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع». وهذا معدٌ للبيع، ولأن زكاة التجارة أعم؛ لأنها تجب في الثمرة، والجذع، وفي الأرض، والزرع، ولأنها تزاد بزيادة القيمة، فكان إيجابها آكد للمساكين.
والثاني: قال في الجديد: (تجب زكاة العين). وبه قال مالكٌ، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس من الإبل شاة، وفي أربعين شاة شاة، وفيما سقت السماءُ العشر». ولم يفرق بين أن يكون للتجارة أو للقنية.
ولأن زكاة العين مجمعٌ عليها، بدليل: أن من قال: لا تجب زكاة العين.. يحكم بكفره، وزكاة التجارة مختلفٌ في وجوبها؛ ولهذا لا يكفر من قال: لا تجب.
وإن سبق حول إحدى الزكاتين، مثل: أن يكون عنده مائتا درهمٍ أقامت في يده أحد عشر شهرًا، فاشترى بها خمسًا من الإبل، فأسامها.. فإنه إذا مضى شهرٌ.. أتم حول زكاة التجارة.
وإن أقامت في يده ستة أشهرٍ، ثم اشترى بها أرضًا فيها نخلٌ للتجارة، فأقامت شهرًا، وبدا فيها الصلاح، وقد سبق حول زكاة العين.. فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول القاضي أبي حامدٍ -: أنها على قولين، كالأولى؛ لأن الشافعي لم يفصل، ولأن الشافعي فرض الكلام في الثمرة، ويبعد أن يوافق آخر جزءٍ من حول التجارة أول بدو الصلاح، وبهذا قال أحمد.
والوجه الثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي، واختيار القاضي أبي الطيب -: أن التي سبق حولها تقدم، قولًا واحدًا، كما إذا وجد نصاب إحدى الزكاتين، فإنها أولى.
إذا ثبتَ هذا: فإنْ قلنا: تُقدَّمُ زكاة التجارة.. قوِّمت الأرض والزرع والجذوع والثمرة، وأخرج ربع العشر.
وإن قلنا: تقدم زكاة العين.. أخرج عن خمسٍ من الإبل شاة، وعن أربعين شاة شاة، وأخرج عشر الثمرة أو الزَّرْعِ، وهل تقوم الأرض أو الجذوع؟ فيه قولان حكاهما في "المهذب" و "الشامل"، وحكاهما صاحب "التعليق" و " المجموع " وجهين:
أحدهما: تقوم الأرض والجذوع، فإن بلغت القيمة نصابًا.. أخرج عنها زكاة التجارة، وإن لم تبلغ القيمة نصابًا.. لم يخرج شيئًا؛ لأن المخرج زكاة الثمرة، فبقيت الأرض والجذوع، ولا يتأتى فيها إيجاب زكاة العين، فوجبت فيهما زكاة التجارة.
والثاني: لا يقومان، ولا يجب فيها شيءٌ؛ لأنا إذا أوجبنا الزكاة في الثمار.. صارت الأرض والنخل، تبعًا لها، كما إذا ملك تسعًا من الإبل، فأخرج عنها شاة، فإن الأربعة تابعة للخمس.

.[مسألة: اتجر بأربعين شاة]

فإن اشترى أربعين شاة للتجارة، وأسامها، فإن قلنا: تجب زكاة التجارة، فأخرج عنها الزكاة في الحول الأول، فإذا جاء الحول الثاني قومها، فإن بلغت قيمتها نصابًا.. أخرج عنها الزكاة، وإن نقصت عن الأربعين، ولم تبلغ قيمتها نصابًا.. سقطت زكاة التجارة عنها.
وإن قلنا: تجب زكاة العين.. أخرج عنها في الحول الأول شاة، فإذا حال الحول الثاني.. لم يجب فيها زكاة العين؛ لأنها ناقصة عن الأربعين، وهل تجب فيها زكاة التجارة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا تجب لأنا قد حكمنا بأن زكاة التجارة لا تجب فيها، وإنما تجب فيها زكاة العين، وقد نقص نصابها، فسقطت.
والثاني: تجب فيها زكاة التجارة، وهو الصحيح؛ لأنه مالٌ للتجارة، وإنما أسقطنا زكاة التجارة إذا كان هناك ما هو أقوى منها، فإذا سقط الأقوى.. رجع إلى زكاة التجارة، وينبغي على قياس ما قاله الشيخ أبو حامد: إذا أوجبنا فيها زكاة التجارة، فأخرج عنها في الحول الأول، ثم قومناها في الحول الثاني، ولم تبلغ قيمتها نصابًا، ولم تنقص عن الأربعين.. هل يجب فيها زكاة العين على هذين الوجهين؟ الصحيح: أنها تجب.
قال الشافعي: (ولو كان مكان النخل غرسٌ لا زكاة فيها.. زكاها زكاة التجارة).
وهذا صحيح كما قال، إذا ملك الرجل غرسًا لا يحمل، كودي النخل أو شجرة مثمرة لا تجب الزكاة في ثمرتها، مثل: التفاح والتين، وإن كان ذلك للتجارة.. زكاه زكاة التجارة، قولًا واحدًا؛ لأنه لم يوجد - هاهنا - زكاة تعارضها.

.[مسألة: شراء الحلي المباح للتجارة]

فإن اشترت المرأة حليًا مباحًا للتجارة.. فإن الزكاة تجب فيه، سواءٌ كانت تلبسه أو لا تلبسه، لأن الرجل إذا كان له مالٌ لا تجب فيه الزكاة، وجعله للتجارة.. وجبت فيه الزكاة، فإذا جعل ما تجب فيه الزكاة للتجارة.. أولى أن تجب.
فعلى هذا: إن قلنا: إن الحلي المباح لا تجب فيه زكاة العين.. فهاهنا تجب زكاة التجارة، قولًا واحدًا إذا بلغت قيمته نصابًا.
وإن قلنا: الحلي المباح تجب فيه زكاة العين.. فقد ترادف هاهنا زكاتان، وأيهما تجب؟ فيه قولان، كما مضى.